أدعياء الثقافة وأحادية الفكر


يؤثر فكر المثقف وشخصيته على المحيطين به وعلى مجتمعه، ويؤثر الإعلام بشكل أعمق في تكوين المفاهيم وترسيخ الانطباعات لدى المجتمع عن المثقف.. إعلامنا العربي دأب منذ عقود على تشويه صورة المثقف وإظهاره في شخصية الساذج أو الحالم الذي لا يدرك ما يدور حوله، أو المغلوب على أمره غالباً.. وهو في جميع المواقف متسم بالضعف والعوز وقلة الحيلة، والتردد وعدم المقدرة على حسم الأمور أو اتخاذ المواقف، بينما بالمقابل تمّ تصوير الشخص الذي لا تعنيه الثقافة في شيء، بل ويسخر منها ومن أهلها، بصورة المدرك لغايته، المحقق لهدفه، المهاب الجانب، المسموع الكلمة وصاحب المال والنفوذ. وشاهدنا ذلك في العديد من الأفلام، بل وفي كثير من الأدبيات خاصة في فترة الثمانينيات، وساهم المثقف نفسه في ترسيخ الصورة المنمّطة المنطبعة في أذهان الآخرين عنه، من خلال النظر إليهم من شرفة برج عاجي، عزل نفسه فيه، واستعذب الشعور بالوحدة فهي عنده خير من جليس السوء، فلم يخالط الناس مما زاد من اتساع الهوة بينهما، وفُتح الباب واسعا لظهور فئات من المجتمع تتسم بالجهل، فغني جاهل خير من مثقف فقير أو حتى مستور الحال، فلم نعد نرى الثقافة إلا من خلال مثقفين يرثى لحالهم، فافتخر الغني بثرواته وإن صاحبها جهله، وابتعد الفقير عن الثقافة ونفر منها، كما أفرز لنا الفراغ الثقافي -من جملة ما أفرز- أصحاب الفكر الأصولي، فزادوا الطين بلة، وأتلفوا عقول الملايين في أمتنا، وأيدت حكومات عربية هذا الفكر وساهمت في نشر خزعبلاته لمآرب عندها، وحتى عندما انقلبت عليه وحاربته كان ذلك من منظور ديني (ظاهريا) أيضا، ولست بصدد مناقشة ذلك الآن...

إلا أن الإعلام كان هو الحاضر الأبرز والساعد الأقوى لتلك الحكومات في نشر ايدولوجياتها.. الآن ومع ثورة تكنولوجيا الاتصال وتطور الإعلام بشكل سريع، ومع تعدد الفضائيات، نعيش مرحلة أخطر.. فتطور وسائل الإعلام أسرع بكثير من تطور ونضج الوعي الثقافي للجيل، كما أن القنوات الفضائية والمؤسسات الإعلامية باتت أكثر عددا من المثقفين أنفسهم، كما أصبح لكلمة الثقافة وقع ورنين جديد مختلف عمّا قبل، ولم يعد تجاهل الثقافة (حتى من قبل من لا يبالون بها) أمرا مقبولا..

إذن فالبديل المطروح هو ادّعاء الثقافة، وما لازم ذلك من أمراض وأعراض، وما التهافت الحاصل الآن على نيل شهادة الدكتوراه، في أي تخصص، (حتى لو كان العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر)، إلا عرض من أعراض هذا الادعاء، المهم أن يُسبق الاسم بحرف (دال) يدل على المكانة العلمية والثقافية. ادعاء الثقافة يطول كل المجالات، ومدعو الثقافة انتشروا كالجراد يملؤون الجرائد والمجلات بكل غث ورخيص من الكلام، ويصمّون الآذان في الفضائيات بالمتناقضات.


إن مدّعي الثقافة أشد خطرا على المجتمع من أعداء الثقافة.

فبوجود الجهل وأعداء الثقافة، لن تعدم أن تجد طائفة ممسكة بتلابيب الثقافة وتعمل على نشرها، أما إذا ساد مدعو الثقافِة المجتمعَ فستزول الثقافةُ وتنضوي تحت زيف الادعاء.

أعداء الثقافة يسهل تمييزهم، أما المدعون فهم كالحرباء يتلونون بكل لون، إلى أن يصلوا إلى غايتهم، فهم يهرفون بما لا يعرفون، وقد يكون لهم متبعون ومؤيدون معتنقون لفكرهم وناصرون له، إنهم يخفضون من سقف الثقافة كثيرا ويحتكرونها، ويصيبونها بالمرض القاتل لأي فكر وهو مرض «الأحادية»، أحادية النظرة والفكر والمعتقد، وانظر حولك نظرة فاحصة لتعرفهم بسيماهم، فهم يتسمون بضيق في الأفق، وحدة وتعصب للرأي وضيق بالنقاش وعدم قبول للنقد، يحسبون كل كلمة تقال عليهم، هم المدعون فاحذرهم.. تحدثهم أكثر من استماعهم، هؤلاء إن قادوا أفسدوا واستبدوا، وانفردوا بالقيادة واتصفوا بالديكتاتورية، وإن قِيدوا اتسموا بالخضوع والخنوع وتأليه من يقودهم وتقديس سيرته وتنزيهه عن الخطأ ووضع النظريات التي تبرر عظيم أفعاله وإنجازاته (الورقية)، يسبحون بحمد من يحكمهم، ويضعون له الأذكار والمأثورات، يتكسبون من التعمية على العامة، ويروجون لحرية الرأي في تأييد رأيهم فقط، هم أكثر الناس سرعة في الوصول لغاياتهم، فتجدهم عند باب كل حاكم ومأدبة كل ثري، هم سوس ينخر في عظام المجتمع.. يعادون من يخالفهم أشد المعاداة، ويغلظون له في القول، ويحاربون الفكر، ويقمعون الرأي، فيقتلون الإبداع ويدخلون البلاد والعباد في نفق مظلم لا مخرج منه.

Comments

Popular posts from this blog

Douglas Adams

Are Egyptian in Gulf area happy about what happened in Egypt?